القائمة الرئيسية

الصفحات

سلسلة : مسائل مهمة في صلاة الاستخارة (7- 8)

المقالة السابــعة : أتــحب أن تكــــون ملهمــــا ؟!

سند بن علي بن أحمد البيضاني

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 الحمد لله  والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعد:

 فهذه السلسلة مأخوذة من الكتاب([2]) الأصل ((صلاة الاستخارة .. كيف تتقنها لتجدد إيمانك؟! ))

 

المبحث الأول : صلاة الاستخارة وحي هذه الأمة !

 

المسألة الأولى : تمهيد وتأصيل

1) منذ سنوات طويلة عندما كنت أقف على النصوص الشرعية التي تتحدث عن أناس كان يُوحى([3]) إليهم ، وكنت  أسأل نفسي : هل من الممكن أن تكون الأمم السابقة خير من هذه الأمة في هذه الجزئية ؟ مع يقيـني بأن الله حكيم ومن حكمته أن لا يضيق على الأحوج ([4]) ، فهذه الأمة أحوج من غيرها من الأمم أن يستمر فيها هذا النوع من الوحي ؛نظراً لأمور عدة  أهمـــــــــــــــها :

 أ ) هذه الأمــــــة خــــير أمة أخرجت للناس .

ب) تطاول الأمـــد بين عصر النبوة إلى قرب قيام الساعة ، مقارنة مع الأمم السابقة وتعاقب الأنبياء فيهم في فترات متقاربة ، بل كان ما هو أكثر من ذلك حيث كان يوجد في بعض الأحيان أكثر من نبي في عصر واحد كموسى وهارون وإبراهيم ولوط عليهم السلام .

ج ) إكمال الله هذا الدين وانقطاع الوحي التشريعي لا يمنع من استمرار هذا النوع من الوحي .

د ) إبراهيم عليه السلام مع عظيم منـزلـتـه وإيمانه ، فقد طلب من المولى سبحانه وتعالى أن يريه كيف يحيي الموتى ليطمئن قلبه ، والمسلم اليوم بحاجة إلى طمأنينة القلب في كل ما يحتاجه من تفاصيل الحياة وما استجد فيها من تعقيدات وكثرت معها التكاليف الشرعية .

وقد جاء إلى الرسول r أعرابي فقال له: إن شرائع الإسلام قد كثرت علي ،فأنبئني منها بشيء أتشبث به فقال الرسول r  (( لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله عز وجل ))([5]).

2) ثم استمر هذا الحال إلى أن وفقني  المولى I إلى كتابة هذا الكتاب ، فأدركت أن هذه الأمة خير من الأمم السابقة في هذه الجزئية أيضا والله ذو فضل على المؤمنين ؛ وذلك حين وفقني الله بمنه وفضله ورحمته إلى معرفة حقيقة الاستخارة وأنها نوع من أنواع الوحي لكل مسلم ومتى شاء ، فهل من مشمر ؟

3) هناك أمران مهمان يجتمعان في الاستخارة هما: الدعاء والإجابة ، ولكن الإجابة في بعض أو كثير من الأحيان بحاجة إلى تمييز أسباب و قرائن التيسير أو الصرف ، ليصبح  بعدها معتقداً بأن الله قد اختار له هذا الأمر أو ذاك ، وكل هذه مبنية على أمر واحد وهو الإلهام ؛ ونظراً لدقة هذه المسألة وحساسيتها فلابد بشيء من التفصيل فيها حتى لا يحصل لبس غير مقصود ، والله ولي التوفيق .

 

المسألة الثانية : تعريف الإلهام والحاجة إليه وأدلته

وردت عدة تعريفات وفي كل منها زيادة في التفصيل ولكن المعنى واحد ونظراً لأهميته ودقته فسوف أذكر معظمها .

·  أن يلقي الله في النفس أمراً يبعثه على الفعل أو الترك وهو نوع من الوحي يخص الله به من يشاء من عباده([6]).

· إلقاء معنى في القلب يطمئن له الصدر يخص الله به بعض أصفيائه وليس بحجة من غير معصوم الخطاب([7]).

· ما وقع في القلب من علم وهو يدعو إلى العمل من غير استدلال بآية ولا نظر في حجة، وليس بحجة عند العلماء إلا عند الصوفيين([8]).

· ومن خلال هذه التعريفات وغيرها نستطيع أن نخرج  بخلاصة وهــي: أن يلقي الله في النفس أمراً  يطمئن له القلب؛ من غير استدلال بنص شرعي فيبعث على العمل أو الترك يخص الله به من يشاء من أوليائه ، وليس بحجة في حق الغير.

وأما الحاجة([9]) إليه فقد قضت حكمة المولى I بإغلاق باب الوحي برسالة محمد r وفتح باب الإلهام برحمته لطفا ًبعباده لدوام حاجتهم إليه كالتأكيد والتذكير وهو مدد يعين النفوس العامرة بالتقوى لمصحوبة بالعلم الموافق للكتاب والسنة وهدي السلف y ، ومن هذا  الذي يزعم أنه ليس بحاجة إلى أن يلهمه المولىI  رشده بفعل الخير وترك الشر وبيان الراجح ؟!

أدلتــــــــــــــه :

جاءت نصوص شرعية كثيرة من الكتاب والسنة تدل عليه وكذلك أقوال من السلف، منها :

أ ـ قوله تعالى :    ] وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا[ [ الشمس : 7 ـ 8]

                   ] وأَوْحَــيْنَآ إِلَـى أُمِّ مـُوسَى أَنْ أَرْضِعِيـهِ[  [ القصص : 7]

ب- جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم (( إنه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدثون وإنه إن كان في أمتي هذه فإنه عمر بن الخطاب )) .

قال الحافظ في ( الفتح : 6/ 516) :

((كذا قاله النبي r على سبيل التوقع وكأنه لم يكن أطّلع على أن ذلك كائن  وقد وقع بحمد الله ما توقعه النبي r في عمر t ووقع من ذلك لغيره مالا يحصى ذكره ))

وقال في موضع آخر : ( الفتح : 7/ 50)

(( وقوله : وإن يك في أمتي ، قيل لم يورد هذا القول مورد الترديد ، فإن أمته أفضل الأمم وإذا ثبت أن ذلك وجد في غيرهم فإمكان وجوده فيهم أولى ، وإنما أورده مورد التأكيد كما يقول الرجل إن يكن لي صديق فإنه فلان يريد اختصاصه بكمال الصداقة، لا نفي الأصدقاء )).

قلت: وإذا قيل إن الحديث خرج مخرج الشرط وجواب الشرط ؛ فلهذا ينبغي أن يبقى جواب الشرط مقتصراً على الشرط .

فالجـــــــــــواب:

 لا يلزم من ذكر جواب الشرط أن يبقى مقتصراً على الشرط ؛ لأن جواب الشرط قد يقع لسبب آخر.

مثل قوله تعالى: ]وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجا [[الطلاق:2]فالخروج من الشدة والرزق هما جواب الشرط ؛ ومع ذلك فقد يقع للفاجر والكافر لسبب آخر مثل الرحمة أو المنّ أو الاستدراج ، ومثل ما قيل هنا  يقال كذلك في آية التوكل] وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [ [الطلاق:3].                                                                                                      

ج- أخرج ابن حبان ـ وصححه الأرناؤوط-، والبيهقي في السنن الكبرى الحديث التالي:    

(( إن للشيطان لمة وللملك لمة ، فأمَّا لمة الشيطان فإيـعاد بالشر وتكذيب بالحق ، وأما لمة الملك ، فإيعاد بالخير وتصديق بالحق ، فمن وجد ذلك فليحمد الله ، ومن وجد الأخرى ؛  فليتعوذ من الشيطان ثم قرأ :] الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [ ))[البقرة : 268] .

قال شيخ الإسلام : ( مجموع الفتاوى : 15/ 97)

(( فإن ما يلقيه في قلوب المؤمنين من الإلهامات الصادقة هي من وحي الله وكذلك ما يريهم إياه في المنام )) .

د - عن أبي هريرة t قال : قال رسول الله r (( إن الله قال .. وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصـر به ... ولئن استعاذني  لأعيذنـّه ...)) أخرجه البخاري وغيره .

 

المسألة الثالثة : حقيقته وأنواعه وحكمه ومفتاحه .

1)  حقيقته:

أن المولى سبحانه وتعالى  قدر فهدى ، ومن تلك الهداية أن وكّل بالإنس ملائكة يلقون في قلوبـهم الخير ([10]) وهو نوع من أنواع الوحي ، ويعرف اليوم عند كثير من الناس بمسميات قد تدل عليه في بعض الأحيان مثل الإحساس ، الشعور ، الخاطر والحاسة السادسة والفكرة ونحو ذلك ، ولكنه غير منضبط بضوابط شرعية ، فيتلبس الإلهام بالوسواس والحق بالباطل ، وهناك طوائف بالغت وغلت في الاستدلال به فجعلته حجة على الإطلاق كالشيعة والصوفية ، وهناك من أنكره على الإطلاق كالفلاسفة ، والحق أن الحق بين ذلك وسيأتي بيانه .

2)             أنواعــــــــــــــه : ثـلاثـة :

الأول : إلهام إيمانـــــــــــي

وهو ثمرة للعلم النافع المصحوب بالتقوى وثمرة من ثمار التقرب إلى الله ، ويكون في هذه الفئة أشمل وأكثر وأنـقى ، وقد كثر الملهمون في هذه الأمة وخصوصاً بعد العصر الأول ([11]).

الثاني : إلـــهام اجتهــادي :

هو ثمرة من ثمار الاجتهاد في طلب الحق أو الخير، فيلهم إلى معرفة الصواب ثم قد تثبته التجربة أو الواقـع ، ويشترك فيه البر والفاجر ، بل منهم من قد يهتدي أو يدخل الإسلام .

وقد قال شيخ الإسلام : ( مجموع الفتاوى : 17 / 530)

(( وقد تكلم النظار في العلم الحاصل في القلب عقب النظر والاستدلال فذكروا فيه ثلاثة أقوال)) ، ثم ذكرها فعلق عليها بقوله:

 (( وحقيقته أن الله وكل بالإنس ملائكة وشياطين يلقون في قلوبهم الخير والشر فالعلم الصادق من الخير والعقائد الباطلة من الشر، كما قال ابن مسعود t لمة الملك تصديق بالحق ولمة الشيطان تكذيب بالحق وكما قال النبي r: في القاضي أنزل الله عليه ملكاً يسدده...([12]) ويقصد بذلك من لم يطلب القضاء ولم يستعن عليه )).

وهذا النوع من الإلهام قد يطول الانتظار حتى تـجنى ثماره مقارنة مع النوع الأول ، وقد يظفر العبد بما هو أهون عند الله من جناح بعوضة ،ويخسر السعادة الحقيقية في الدنيا ، ويخسر جنة عرضها السموات والأرض ، إذن لماذا كل هذا الانتظار والعناء طالما وقد مـنّ الله علينا ببديل أيسر وأضمن وأسلم وأقصر؟. فهل من مــدّكر ؟.

الثالث : إلهــــــــــام فطــري:

كل المخلوقات مفطورة على وحدانية الخالق وهذا النوع يشترك فيه الإنسان والحيوان ، كالطفل مفطور على أنه يختار شرب اللبن بنفسه فإذا تمكن من الثدي رضع، وكذلك الحيوان يلهم من الأصوات ما به يعرف بعضها مراد بعض وقد سمى ذلك منطقاً وقولاً([13]) . قال تعالى على لسان سليمان  ] tوَقَالَ يأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ [ [ النمل : 16] ، وقال تعالى: ] قَالَتْ نَمْلَةٌ يأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ [ [النمل : 18].

 3) حكمـــــه([14])

 

لا يجوز الحكم بمجرد الإلهام ولا يجوز إلزام الغير به ، بل هو دليل في حق نفس الشخص ، إذا كان قلبه عامراً بالتقوى وموافقاً للكتاب والسنة ، وإنما اعتبر لجواز العمل به في حق نفسه عند عدم وجود الدليل ، فكل من كان من أهل الإلهام فلن يكون أفضل من عمر t ومع ذلك فلم يكن يجوز له أن يفتي ولا يقضي ولا يعمل بمجرد ما يلقي في قلبه حتى يعرض ذلك على الكتاب والسنة .

4) مفتاحـــــــــــه:

ليس بكثرة العلم بل بقلب عامر بالتقوى والمجاهدة ومراقبة الأعمال الظاهرة والباطنة قال الإمام الغزالي:

(( أما الكتب والتعلم فلا تفي بذلك - أي الحكمة المتفجرة في القلب - بل الحكمة الخارجة عن الحصر والعد ، إنما تتنقح بالمجاهدة ومراقبة الأعمال الظاهرة والباطنة والجلوس مع الله عز وجل في الخلوة من حضور القلب بصافي الفكرة والانقطاع إلى الله عز وجل عما سواه ، فذلك مفتاح الإلهام ومنبع الكشف فكم من متعلم طــال تعلمه ولم يقدر على مجاوزة مسموعه بكلمة ، وكم من مقتصر على المهم في التعليم ومتوفر على العمل ومراقبة القلب ، فتح الله عليه من لطائف الحكمة ما تحار فيه عقول ذوي الألباب )).([15])

وقال الإمام مالك : (فيض القدير 4/ 488).

(( لا يعرف علم الباطن إلا من عرف علم الظاهر فمتى  علم الظاهر وعمل به فتح الله عليه علم الباطن))  وقال: (( ليس العلم بكثرة الرواية، إنما العلم نور يقذفه الله في القلب يشير إلى علم الباطن )).

 

المسألــة الرابعة : الترجيح بالإلهـــــــــام .

أ- مع أنه لا يجوز الحكم بمجرد الإلهام إلا أنه يكون مرجحاً عند عدم وجود الدليل كما هو الحال في الاستخارة، قال شيخ الإسلام ( مجموع الفتاوى 10/ 471) .

(ثم إن تبين لهم الأمر الشرعي وجب الترجيح به ، وإلا رجحوا بسبب باطن من الإلهام والذوق وإما بالقضاء والقدر الذي لا يضاف إليهم ومن يرجح في مثل هذا الحال باستخارة الله فقد أصـــــــــــابـــــ).

وقفـــــة لابـــد منهــــــــــا :

 وهنا كلمه لا بد منها فمثل هذا التفصيل الدقيق و البيان الساحر من السلف y في هذه المسألة وغيرها من المسائل الكثيرة كالتي ستمر معنا كالتوكل وغيره _ الكتاب_، يدل على أنهم ما وصلوا إلى ذلك الفتح الرباني إلا لأن قلوبهم كانت حية ونابضة بتقوى المولى I ومراقبة لكل أعمالهم الظاهرة والباطنة وهذا مفتاح ثمين جداً لمن أراد أن يصل إلى بعض ما وصلوا إليه .

ب- وقال شيخ الإسلام  في موضع آخر ( مجموع الفتاوى 10/ 473) .

(( ولكن إذا اجتهد السالك في الأدلة الشرعية الظاهرة فلم ير فيها ترجيحاً وأٌلهم حينئذ رجحان أحد الفعلين مع حسن مقصده وعمارته بالتقوى فإلهام مثل هذا دليل في حقــــه، قد يكون أقوى من كثير من الأقيسة الضعيفة والأحاديث الضعيفة والظواهر الضعيفة والاستصحابات الضعيفة التي يحتج بها الكثير من الخائضين في المذهب والخلاف وأصول الفقه )).

ج- الترجيح به خير من التسوية بين الأمرين المتناقضين قال شيخ الإسلام:( مجموع الفتاوى 10/477) .

(( وليس المقصود هنا بيان أن هذا وحده دليل على الأحكام الشرعية ، لكن :إن مثل هذا يكون ترجيحاً لطالب الحق إذا تكافأت عنده الأدلة السمعية الظاهرة ، فالترجيح بها خير من التسوية بين الأمرين المتناقضين قطعاًًًً ، فإن التسوية بينهما باطلة قطعاً )) .

 

المسألة الخامسة : تمييز الإلهام من الوسواس

أ) ما كان يدعو إلى طاعة وخير فهو من الإلهام وما كان يدعو إلى معصية وشر فهو من الوسواس .

ب)  الإلهام ثمرة من ثمار طلب الحق المجرد عن الهوى وثمرة من ثمار البر والتقوى وعلامة عليهما ، والمولى سبحانه وتعالى قد قدر وهدى ، فلهذا تسكن إليه النفس ويطمئن إليه القلب وينشرح له الصدر إذا كان هذا الشيء حلالاً، وإذا كان إثماً فلا تسكن إليه النفس ولا يطمئن إليه القلب وينقبض منه الصدر ، والوسواس عكس ذلك ، وفي الحديث الصحيح:

 (( البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إلية القلب والإثم ما لم تسكن إليه النفس ولم يطمئن إليه القلب وإن أفتاك  المفتون )) ([16]) وهذا الحديث يصلح مع الاستقامة وليس لكل شخص ؛لأن الذنوب لها أثر في تغطية القلب وخصوصاً عند عدم الاستغفار منها، أي لابد من علم وعمل واجتهاد لينال هذه المـنّة الربانية. 

وفي صحيح مسلم : (( والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس )) ، قال الإمام النووي (16/ص 11شرح صحيح مسلم):(( ومعنى حاك في صدرك أي تحرك فيه وتردد ولم ينشرح له الصدر وحصل في القلب منه الشك وخوف من كونه ذنباً )) .

ج) إذا حصل شك أو تردد في أمر مباح، وكنت لا تدري إن كان من الإلهام أو الوسواس، فعليك الترجيح بالاستخارة وإمعان النظر فيه بنور البصيرة لا بهوى الطبع إلى أن يظهر الأمر،قال تعالى:

      ] إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ[ [الأعراف:201]، ولأن الشيطان ليس له سلطان على من توكل على الله.

وإذا استمر الشك والتردد بعد الاستخارة وقبل انجلاء الأمر؛ فحينها لابــــــــــــــــد من العزم والتوكل على الله بإقدام أو إحجام حتى لا تقع في الحيـــرة فالاستخارة مفتاح ذهـبي للخيرة وليس لمزيد من الحيرة .

د) الإلهام يتكرر([17]) ويستقر وأن حصل اضطراب في النفس أثناء البحث عن الراجح أو الصواب، ولكنه في النهاية يستقر ولا يضطرب إذا بذل المستخير كل جهد يستطيع عليه مثل البحث والمشاورة والسؤال.

قال الحافظ في: (الفتح/12/388) :

(( أهل المعرفة بذلك ذكروا أن الخاطر الذي يكون من الحق يستقر ولا يضطرب والذي يكون من الشيطان يضطرب ولا يستقر ، فهذا إن ثبت كان فارقاً واضحاً ومع ذلك فقد صرح الأئمة بأن الأحكام الشرعية لا يثبت بذلك )).

وقد أثبتت التجربة أن المستخير في المسائل الدقيقة المحيرة التي تحتاج إلى ترجيح قد يمر بثلاث حالات ثم يثبت ويستقر وتكون بعــد:

1- استفراغ الجهد:

أن يبذل المستخير كل ما في وسعه في مسألة ما فيصل إلى الحل الذي يعتقد أنه صواب فتطمئن إليه نفسه بعد أن كانت غير مطمئنة قبل بذل ذلك الجهد.

2- نضوج المسألة:

أن يبذل المستخير كل ما في وسعه ثم يشعر بعدم الطمأنينة في ترجيح أمر على أمر فيتركه ، ثم يأتي وقت ويثار هذا الأمر من جديد فيصل المستخير إلى الحل الذي يعتقد أنه أصوب فتطمئن إليه نفسه.

3- الاضطرار إلى دعاء المضطر:

أن يبذل المستخير كل ما في وسعه فلا يصل إلى ترجيح تطمئن إليه نفسه، فيجد نفسه قد لجأ إلى الله بدعاء المضطر، فيستجيب له بمنّــَه ورحمته، فيصل إلى الحل الذي يعتقد أنه صواب فتطمئن إليه نفسه .

هـ( سبب الاشتباه أربعة أمور لا خامس([18]) لها ؛ فمن عصم منها فرق بين لمة الملك ولمة الشيطان ومن ابتلي بها لم يفرق ، وهــــــــي :

·       ضعف اليقين .

·       قلة العلم لمعرفة النفس وأخلاقها .

·       متابعة الهوى بخرم قواعد التقوى .

·       محبة الدنيا ومالها وجاهها وطلب المنـزلة والرفعة .

و) اتفقوا([19]) على أن كل من أكل من الحرام لم يفرق بين الوسوسة والإلهام وقد ورد في السنة أن ملائكة الرحمة تتأذى بأقل من هذا ، فهي لا تدخل بيتا فيه كلب أو صورة، ولا تصحب رفقة فيها كلب أو جرس .

·       أنواع الوسواس :

أ) وسواس من الشيطان :

    سببه الاقتراب من المعاصي ، قال تعالى] فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ[[ الأعراف : 20] وسبب الاقتراب وسواس النفس ، ومن وسواس النفس حب الاستطلاع على الأشياء المنهي عنها ، ومثاله عندما اقترب آدم وحواء u من الشجرة التي نهاهما الله من الاقتراب منها، فوسوس لهما الشيطان فأكلا منها ، قال تعالى : ]وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ [ [البقرة :35] ، فكان السبب الأول هو الاقتراب أو حب الخلد ثم الأكل ، قال تعالى: ] فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى  [ [طه: 120] ، فجاءه من حيث يحب ، وبهذا تظهر أيضا أهمية معرفة تسلسل الأسباب([20])، لأن النتائج لها تبع ، فلهذا لا تعجب إن قضت حكمة الباري بسد باب الذرائع ، فالشيطان قد أخرج أبانا أدم u من الجنة بسببها. أي الشجرة.

ب) وسواس من الناس :

    قال تعالى :  ]قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ،  مَلِكِ النَّاس إِلَـهِ النَّاس، مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاس الذي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاس [ ، وسببه الصحبة والمخالطة السيئة والمرء على دين خليله ، وللشيطان جنود من الإنس يستفزهم لإغواء الناس .

ج) وسواس من النفس:

   قال تعالى: ] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ [ [ق : 16] ، وسببه الهوى وحب الدنيا والملك والتملك .

وبعد كل ذلك على الإنسان أن يعرف نوع الموسوس وسببه التفصيلي، فالأسباب التفصيلية كثيرة جدا ولا يستطيع المرء معرفتها إلا بمكاشفة النفس ، ومكاشفة النفس لا تكون إلا بعد مراقبة

 الأعمال الظاهرة والباطنة والجلوس معها بخلوه ، فالإيمان يبلى كما يبلى الثوب وتجديده يبدأُ من القلب وقد دل على ذلك الحديث الصحيح([21]). 

تنبيه مهم :

أ- كل ما تقدم عن علاقة الإلهام والوسواس بالبر والإثم هو الأصل ولكن لا يمنع ذلك من وصول الحق إلى المستخير وإن وجد صعوبة في التمييز ، ولكن إذا أخلص النية في طلب الخيرة وأحسن التوكل واجتهد في الدعاء والاستغفار والاستعاذة ، فلا بد أن يظهر له الحق بمنّ الله ورحمته ، لأن الحسنات يذهبن السيئات فإذا ذهبت زاد الإيمان وزاد النور في القلب فإذا هو مبصر بإذن الله .

ب- هناك قاعدة مهمة تتعلق بالوعد والوعيد ، فالمولى سبحانه وتعالى كتب على نفسه أنه لا يخلف الوعد عدلاً منه ، وكتب على نفسه أن رحمته سبقت عذابه ، ومن رحمته أن يتجاوز عن عبده الوعيد الذي يستحقه واليأس من روح الله مرفوض شرعاً جملة وتفصيلاً ، فغاية الشيطان أن يوصل الإنسان إلى هذه المرحلة .

ج- إذا كان من الإلهام ما قد يحصل بسبب الاجتهاد في طلب الحق أو الفطرة فمن بأب أولى أن يحصل للمستخير من الإلهام ما يستطيع به أن يميز بأن الله قد اختار له خيراً أو صرف عنه شراً ، إذا أتقنـــــــها .

خلاصة المبحث :

هذه الصلاة وحي هذه الأمة  ولكل مسلم ومتى شاء !.إذا صدق النية في طلب الخيرة وأتقنها([22])وهذا ما يجعل هذه الأمة أفضل من الأمم السابقة حتى في هذه الجزئية أيضا، فمن هذا الذي لا يحب أن يكون ملهماً ومسدداً([23]) ومتقناً ومبدعاً ؟!- بفضل من الله ومنّـه- سواء من كان يريد الدنيا أو الآخرة  أو معا.ولكن المسلم العاقل من يحسن الاختيار ، فكم من هؤلاء لم يذق السعادة الحقيقية ولا صلاح البال...  .


المبحث الثاني : أتـحب أن تكــون مثلهم ؟!

لا يكاد يخفى اليوم على مسلم الإرث العظيم والأثر المبارك الذي خلفه السلف الصالح  yفي ازدهار الحضارة الإنسانية عموما، والإسلامية خصوصا،فلهذا من أراد أن يكون ملهما مثلهم([24]) ؛ فلا سبيل إلى ذلك إلا بالاتباع وليس بالابتداع ، ولهم مع الاستخارة شأن عظيم ، أهمهـا :

المسألــــة الأولــــــى : ما جـــــاء عن الصحــــــابة y :

1)   كتابتها :

معلوم عند كثير من طلبة العلم أن معظم السنة لم تكتب في عهده r  ومع ذلك فقد كانت تكتب بأمره وهذا يدل على أهميتها فعن ابن مسعود t قال: ((ما كنا نكتب في عهد رسول r من الأحاديث إلا الاستـخارة والـتشهد )) ([25])

2)   قصة دفن الرسول r :

لما توفي الرسول r اختلف الصحابة y في اللحد والشق وتكلموا في ذلك وارتفعت أصواتهم... قال أنس t : وكان بالمدينة رجل يلحد وآخر يضرح ، فقالوا : نستخير ربنا ونبعث إليهما فأيهما سبق تركناه فأُرْسِل إليهما فسبق صاحب اللحد ، فلحدوا للنبي r. ([26]) 

  وفي هذا الحديث بعض الفوائد نذكر منها ما يتعلق بالاستخارة :

        أ)  الأصل بعد الاستخارة العــــــــــــزم على الأمر إلى أن يتيسّر أحد الأمرين.   

       ب)  استحباب أو جواز أن تجعل علامة بينك وبين المولى I تصبح بعدها معتقداً بأنه قد اختار لك   هذا الأمر ليطمئن إليها قلبك ، فقد جعلوا علامة الإجابة لمن يسبق ، وقد يكون محل ذلك عند وجود خيارين . أي في الأمور الصعبة وإلا أخذَ بمبدأ السلامة وهي الأخذ بقرائن التيسير والصرف ، فتوكلهم ويقينهم ليس مثلنا، والسلامة لا يعدلها شيء كما قال ابن عباسt   .

  ج)  يفهم من نص الحديث أن الاستخارة كانت بالدعاء وقد يكون بالدعاء المعروف ، وقد يكون   بطلب الخيرة .

د) يستفاد من هذا الأثر أن تمييز التيسير أو الصرف ليس محصوراً بانشراح الصدر أو انقباضه، وسوف يأتي الحديث عن ذلك .

3) عمر بن الخطاب t.

أ‌)                       توريث الكلالة والجد :

عن سعيد بن المسيب أن عمر t كتب في أمر الجد والكلالة في كتف ثم طفق يستخير  الله شهراً ، فلما طعن دعا بالكتف فمحاها ثم قال : ( إني كنت كتبت كتاباً في الجد و الكلالة ، وإني رأيت أن أردكم على ما كنتم عليه ولم يدروا ما كان في ( الكتف )([27])  

      الكتف : نوع من أوراق الشجر يكتب عليه .

ب‌)                  كتابة السنة :

عن عروة أن عمر t أراد أن يكتب السنن فاستشار أصحاب الرسول r في ذلك فأشاروا عليه أن يكتبها فطفق يستخير الله فيها شهراً ثم أصبح يوماً وقد عزم الله له ، فقال: (( إني كنت أريد أن أكتب السنن وإني ذكرت قوماً كانون قبلكم كتبوا كتباً فأكبّوا عليها وتركوا كتاب الله وإني و الله لا ألبس كتاب الله بشيء أبداً ))([28]) .

4)  استخلاف عثمان بن عفان t:

لما حاصر الخوارج دار عثمان t أشرف عليهم فقال : (( أنشدكم بالله عز وجل هل تعلمون أنكم دعوتم الله ثم مصاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب t أن يخير لكم وأن يجمعكم على خيركم فما ظنكم بالله لم يستجب لكم وهنتم على الله سبحانه )) .

ثم كان ردهم - والشاهد منه- قولهم: (أما ما ذكرت استخارة الله عز وجل الناس بعد عمر t فيمن يولون عليهم ثم ولوك بعد استخارة الله ، فإن محل ما صنع الله الخير ، والله I جعل التابعين بلية ابتلى بها عباده) ([29]) .

 

5)   زواج زينب بنت جحش t:

عن أنس t قال : لما انقضت عدة زينب ، قال رسول r لزيد فاذكرها علي ، قال فانطلق زيد حتى أتاها وهي تخمر عجينها قال : فلما رأيتها ، عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها أن رسول r ذكرها فوليتها ظهري ونكصت على عقبي فقلت : يا زينب أرسل رسول الله r يذكرك قالت : ما أنا صانعة شيئا حتى أُوامر ربي فقامت إلى مسجدها ...([30])  .

      قال الإمام النووي : (9/ 228) .

(( قولها: ((ما أنا صانعة شيئا حتى أوامر ربي فقامت إلى مسجدها)) أي موضع صلاتها من بيتها وفيه استحباب صلاة الاستخارة لمن هم بأمر سواء كان ذلك ظاهر الخير أم لا وهو موافق لحديث جابر... ولعلها استخارت لخوفها من تقصير في حقه r )) .

 

6)  قصة ابن الزبير y عندما نقض الكعبة :

لما احترقت الكعبة في زمن يزيد بن معاوية أراد ابن الزبير أن ينقضها ويبنيها على أساس إبراهيم عليه السلام ، فقال : (( يا أيها الناس أشيروا عليّ في الكعبة أنقضها ثم أبـني بناءها أو أصلح ما وهي منها ))، قال ابن عباس :(( فإني قد فرق لي رأي فيها أن تصلح ما وهي منها ، وتدع بيتاً أسلم الناس عليه وأحجاراً أسلم الناس عليها وبُـعث عليها النبي r )) .

فقال ابن الزبير: ((لو كان أحدكم احترق بيته ما رضي حتى يجدّه فكيف بيت ربكم ، إني مستخير ربي ثــلاثاً ثم عازم على أمري)) فلما مضى الثلاث أجمع رأيه على أن ينقضها فتحاماه الناس أن ينـزل بأول الناس يصعد فيه أمر من السماء ، حتى صعده رجل فألقى منه حجارة فلما لم يره الناس أصابه شيء تتابعوا فنقضوه وأعاد بناءه على أساس إبراهيم . ([31]) 

 

7 )  قصه  خروج الحسين بن علي y إلى العراق .

بعد وفاة معاوية t تولى يزيد الخلافة فأراد الحسين بن علي y الخروج إلى العراق لينصروه ، فأشار عليه بعض الصحابة والتابعين بأن لا يفعل، فقال أستخير الله في ذلك. ومن ذلك أن كتبت إليه عمرة بنت عبد الرحمن تقول : أشهد لحدثتني  عائشة أنها سمعت رسول الله  r يقول :(( يقتل حسين بأرض بابل ))([32])  فلما قرأ كتابها قال: ((فلا بد لي إذاً من مصر عي))([33])  ونهاية القصة معروفة .

 

 

 

المسألـــة الثانية : ما جــــاء فـــــي الإكثار منهــا

1-   قال الإمام النووي : ((شرح صحيح مسلم / 9/ 228))- عند شرحه حديث الاستخارة -

(( وفيه استحباب صلاة الاستخارة لمن هم بأمر سواء كان ذلك ظاهر الخير أم لا)) .

ويقصد إذا هم : إذا أراد ، فسياق كلامه يوضح ذلك بقوله: ((ظاهر الخير)) كما أنه موافق للروايات الأخرى وفهم السلف .

 

2-  قال الإمام القرطبي: في تفسيره ((13 / 306)) :

    (( قال بعض العلماء لا ينبغي لأحد أن يقدم على أمر من أمور الدنيا حتى يسأل الله الخيرة ، بأن يصلي ركعتي صلاة الاستخارة )) .

وقوله هذا يشير إلى أن من العلماء من ذهب إلى وجوبها ، وهذا يدل على أهميتها ، والصحيح أنها غير واجبة ولمزيد من الفائدة انظر ما نقله الحافظ ابن حجر عن شيخه في ((الفتح /11/185)) .

 

3-  قال شيخ الإسلام : (( الزهد والورع/1/ 93)). (مجموع الفتاوى/10/661).

((وما اشتبه أمره على العبد فعليه بالاستخارة المشروعة فما ندم من استخار الله تعالى، وليكثر من ذلك ومن الدعاء فإنه مفتاح كل خير)) ، وقال: (ص 96) (( فأما تعيين مكسب على مكسب من صناعة أو تجارة أو بناية أو حراثة أو غير ذلك فهذا يختلف باختلاف الناس ، ولا أعلم في ذلك شيئاً عاماً لكن إذا عنّ للإنسان جهة فليستخر الله تعالى فيها الاستخارة المتلقاه عن معلم الخير r فإن فيها من البركة مالا يحاط به  )) .

 

4- قال الحافظ ابن حجر: ( الفتح/11/ 184)) :عند شرحه لقوله ((في الأمور كلها)) ((ويتناول العموم العظيم من الأمور والحقير ، فربّ حقير يترتب عليه الأمر العظيم )).

5) قال الإمام الشوكاني : (( نيل الأوطار / 3/ 88)) .

((قوله: في الأمور كلها دليل على العموم ، وأن المرء لا يحتقر أمراً لصغره وعدم الاهتمام به فيترك الاستخارة فيه ، فربَّ أمر يستخف بأمره ؛ فيكون في الإقدام عليه ضرر عظيم أو في تركه ؛ ولذلك قال r : ليسأل أحدكم ربه حتى في شسع نعله)).

 

المسألــــة الثالثــة : ما جـــاء فــي التأليـــف

 

جاء في كثير من الكتب بأنهم ما شرعوا في تأليفها إلا بعد الاستخارة ، وهذا قد يفسر سر بركتها وبقائها إلى يومنا هذا ، ومن أهم ما وقفت عليه :

1-   قال الإمام البخاري : (ما أدخلت في الصحيح حديثاً إلا بعد أن استخرت الله وصـليت ركعتـين وتيقـنت صحته)([34]) .

قلت : لا تعجب إن جعل المولى I كتابه أصح كتاب للسنة النبوية ، وهذا يؤيد قول شيخ الإسلام: ((فإن فيها من البركة ما لا يحاط به))، وفي هذا الكتاب لا يكاد يوجد عنوان إلا واستخرت الله فيه بركعتين بل أكثر من ذلك عندما يحتاج الأمر إلى ترجيح أو طمأنينة ، وأسأل المولى I بمنّه وفضله أن ينفع ويبارك به وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم . اللهم آميـن .

2-       تفسير الطبري لأبي جعفر الطبري. (سير أعلام النبلاء 14/ 274) .

3-       السنن الصغرى (1/ 17)/للبيهقي .

4-       قال الإمام ابن خزيمة([35]) كنت إذا أردت أن أصنف الشيء دخلت في الصلاة مستخيراً حتى  يُفتح لي فيها ثم أبتدئ التصنيف.( تذكرة الحفاظ/2/721) (السير/14/369).

5-           شرح صحيح مسلم  (1/ 4) النووي .

6-           ميزان الاعتدال في نقد الرجال (1/ 113) الذهبي .

7-           التخويف من النار (1/7) ابن رجب الحنبلي .

8-           لسان الميزان (1/ 3) ابن حجر .

9-           مقدمة فتح الباري (1/ 3) ابن حجر .

10-   الكافي (1/ 1) ابن قدامة المقدسي الحنبلي .

 

 
المسألــة الرابعــة : ما جــاء فــي الجــرح والتعديــل

1)   الإمام ابن حبان :

لاحظت من خلال البحث أنه من أكثر علماء الجرح والتعديل استخارة في الجرح والتعديل عندما يشكل عليه أمر راوٍ ما ومن ذلك قوله في :

أ)  إسحاق بن يحيي بن طلحة، وقد ذكره في الضعفاء وفي الثقات وقال: (يحتج بما وافق الثقات ويترك ما انفرد به بعد أن استخرت الله فيه). ((مجمع  الزوائد/10/390)) .

ب) بهز بن حكيم : قال فيه ((كان يخطئ كثيراً فأما الإمام أحمد وإسحاق فهما يحتجان به ، ويرويان عنه وتركه جماعة من أئمتنا ولو لا حديثه ( إنـّا آخذوها وشطر إبله عزمة من عزمات ربنا )([36])  لأدخلناه في الثقات وهو ممن أستخير الله فيه )) ((حاشية ابن القيم/4/318)).

ج) عمران بن مسلم القصير ، قال فيه : (( بل الإنصاف عندي في أمره مجانبة ما روي عنه ممن ليس بمتقن في الرواية ، والاحتجاج بما رواه عنه الثقات على أنه له مدخلاً في العدالة في جملة المتقنين وهو ممن  أستخير الله فيه )) (( المجروحين / 2/ 123)).

2) موسى بن هارون بن سعيد :

قال : ((استخرت الله سنتين حتى تكلمت في المعمري )) واسمه أبو علي الحسن بن علي بن شبيب البغدادي المعمري ،وقد وضح ابن هارون السبب فقال : (( إني كتبت معه في الشيوخ وما افترقنا ، فلما رأيت تلك الأحاديث ، قلت: من أين أتى بها رواها أبو عمرو بن حمدان عن أبي طاهر عنه، ثم قال الجنابذي كان المعمري يقول كنت أتولى لهم الانتخاب فإذا مرّ بي حديث غريب قصدت الشيخ وحدي فأسأله عنه )) . ثم قال الإمام الذهبي : (( عوقب بنقيض قصده ولم ينتفع بتلك الغرائب بل جرت عليه شراً ))([37]) .أ.هـ

3) الإمام عبد الرحمن الرازي :

قال الإمام ابن حبان (( المجروحين 1/ 122)) :(( أخبرنا الهمداني حدثنا عمرو بن على قال كان يحيى _ أي القطان_ وعبد الرحمن لا يحدثان عن إسماعيل بن عبد الملك ، قال ورأيت عبد الرحمن يقول أستخير الله أستخير الله اضرب على حديثه ، يقول عن عطاء : إنما حرمت الشربة التي أسكرتك ، وهذا قول أهل الكوفة )).

 

المسألــة الخامسة : ما جـــاء فـــي الترجيح والتحديــث 

أولا : الترجــــــــــيح

1)              الإمــام الشافعــي :

له ترجيحات كثيرة([38]) للمسائل الفقهية من خلال الاستخارة ، ولم أقف على غيره ومن ذلك :

أ  )    أن المبتوتة لا ترث زوجها طلقها مريضاً أو صحيحاً وقال :( وهذا مما أستخير الله عز وجل فيه) قال الربيع : (( وقد استخار الله فيه فقال: لا ترث المبتوتة طلقها مريضاً أو صحيحاً)) (( الأم / 5/ 225)) .

ب )   زكاة الحلي ، وقال: (( وهذا ما أستخير الله عز وجل فيه )) قال الربيع: ((قد استخار الله عز وجل فيه وقال : وليس في الحلي زكاة )) (( الأم /2/ 41)) .

   ج ) المسح على الجبائر ، قال : (( ولو عرفت إسناده بالصحة ؛ قلت به وهذا مما أستخير الله فيه)) قال الربيع (( أحب إلى الشافعي أن يعيد متى قدر على الوضوء أو التيمم ..)) (( الأم / 1/ 44)) .

2)         شيــخ الإسلام ابـن تيمية :

راجع ما تقدم ذكره في باب الترجيح بالإلهام.

3)         الحافــظ ابن حجــر :

لما اختلف المترجمون في صحبة حمزة بن عمر ذكر الحافظ كلاماً طويلا في ( الإصابة / 2/ 123) ثم قال : ((  وهو ممن أستخير الله فيه )) .

ثانياً : التحديـــــــــــــــــــــــــــــــــث

1) الإمـام مالك بن أنـس :

كان من تعظيمه لحديث الرسول r إذا أراد أن يخرج يحدث توضأ ولبس أحسن ثيابه ومشط لحيته ، وفي ذات مرة اجتمع عليه من أهل الحجاز والشام والعراق ليحدثهم ، قال الحسن بن أبي الربيع كنا على باب مالك بن أنس فخرج مناد ، فنادى ليدخل أهل الحجاز فما دخل إلا أهل الحجاز ، ثم خرج فنادى : ليدخل أهل الشام فما دخل إلا أهل الشام ، ثم خرج فنادى ، ليدخل أهل العراق ، فكنا آخر من دخل وكان فينا حماد بن أبي حنيفة ، فلما دخل قال:( السلام: الله ) ، وإذا مالك جالس على الفرش والخدم قيام بأيديهم المقارع ، فأومأ الناس إليه بأيديهم اسكت ، فقال : ((ويحكم أفي الصلاة نحن  فلا نتكلم ؟)) ، قال فسمعت مالكاً يقول: ((أستخير الله أستخير الله)) ثلاثاً ثم قال : (( أخبرني نافع عن ابن عمر )) فحدثنا عشرين حديثاً .([39])

 

  2) الإمــام أحمــد بن حنبل :

عن عبد الله قال سمعت أبي سنة 237 هـ يقول: قد استخرت أن لا أحدث حديثاً على تمامه أبدا ثم قال إن الله يقول:] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ  [[المائدة:1] وإني أعاهد الله أن لا أحدث بحديث على تمامه أبداً ، ثم قال: (( ولا لك وإن كنت تشتهي )). 

ثم قال المروذي: (( بلغه عن رجل من الدولة وهو ابن أكتم أنه قال قد أردت أن يأمره الخليفة أن يكفر عن يمينه ويحدث ، فسمعت أبا عبد الله يقول لرجل من قبل صاحب الكلام لو ضربت ظهري بالسياط ما حدثت([40]) )) .      

وسبب هذا الأمر شدة ورعه ومراقبته لله عز وجل ، ويظهر ذلك من خلال ما ذكره أبو بكر بن صدقة قال:

سمعت محمد بن عبد الرحمن الصيرفي قال : أتيت أحمد بن حنبل أنا و عبد الله بن سعيد الجمال وذلك في آخر سنة مائتين ، فقال أبو عبد الله – أي الإمام أحمد- للجمال :

يا أبا محمد إن أقواماً يسألوني أن أحدث فهل ترى ذاك ؟ فسكت .

 فقلت: - أي الصيرفي - ((أنا أجيبك)) قال: (( تكلم )).

 قلت :  - أي الصيرفي - (( أرى إن  كنت تشتهي أن تحدث فلا تحدث وإن كنت تشتهي أن لا تحدث فحدث ، فكأنه استحسنه )).([41])

قلت : تأمل طـــــول مراقبته لله سبحانه وتعالى لنيته في هذه المسألة من سنة 200هـ  -237 هـ ؛ فالمؤمن يعمل ويسارع في الخيرات وقلبه وجل أن لا يتقبل الله عمله وذلك مصداقاً لقوله تعالى: ] وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآآتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُوْلَـئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [[المؤمنون:60] ثم تأمل سر ورود هذه الآية في سورة المؤمنين .

 

  3)     الحنينــــي

عن يوسف بن سعيد قال : كان الحنيني لا يحدث بحديث حتى يستخير الله ثلاث مرات ، فكنا عنده يوماً فسئل عن حديث ، فجعل يحرك شفتيه ساعة يستخير الله ثلاثاً ثم حدث . ([42])

 

وفي الختام أسأل المولى سبحانه وتعالى أن يخلص نياتنا ويصلح أعمالنا ويمنحنا ولا يمتحننا إنه على كل شيء قدير، والى اللقاء بإذن الله في كتاب آخر ، فالخير كل الخير فيما يختاره علام الغيوب سبحانه .

حيطة ودعوة:

أخي المسلم : إذا كنت تشعر بأنك لن تحتاج إليها في يوم من الأيام ، فلا تحتفظ بها، بـــل تصدق بها لآخر، وإذا كنت تشعر بأنك استفدت منها؛ فأحب لأخيك كما تحب لنفسك([43]) لعل الله ينفعك وينفعهم بها ، فما هي إلا ضغطة زر فالدال على الخير كفاعله .

 

 

ولا تــــنســــــــــوا إخوانكم من صالح الدعـــــــــــــــــاء

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،

منقول من 

http://www.saaid.net/

 



([1] )   هذا التفريع منتقى من بعض المسائل وليس كل ما في المسألة .

[2] )    من ينظر إلى  ترتيب فهارس الكتاب يجده مختلفا عن ترتيب السلاسل ، وفي ظني أنه يناسب المقام ، فإن كان  كذلك  فهذا من بركة الاستخارة .

[3]) )     كأم موسى وأم عيسى عليهما السلام وحديث الأقرع والأعمى والأبرص وغير ذلك كثير وثابت في الكتاب والسنة .

[4]) )    لمزيد من الفائدة انظر (فرائد الفوائد / باب العقيدة / فائدة بعنوان : حكمة الحكيم مع الأحوج ).

[5]) )    حديث صحيح : أخرجه ابن ماجه وابن حبان والحاكم في المستدرك وصححه الألباني .

([6] )   (لسان العرب) لابن المنظور .

([7] )    (الحدود الأنيقة : 1/ 68) لأبي يحيي الأنصاري (التعاريف: 1/ 89)  للمناوي .

([8] )   ( التعريفات : 1/ 51) للجرجاني .

[9]) )    انظر : ( فيض القدير : 4/ 388) المناوي .

[10]) )  وإن كان من البشر من لا يشعر بأنه من الملك ، كالشيطان عندما لا يشعر بعضهم بوسواسه.(مجموع الفتاوى : 17/ 531).

[11]) )  لمزيد من الفائدة انظر ( الفتح 7/ 51).

[12]) )  أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه الذهبي في ( التلخيص ) وأبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد وضعفه الألباني والأرناؤوط .

[13]) )   ( مجموع الفتاوى : 17/ 91/ ) درء التعارض : 8/ 448) ابن تيمية .

[14]) )   (درء التعارض : 8/ 30) ( منهاج السنة النبوي : 8/ 70) ابن تيمية.

[15]) )  (مناهل العرفان في علوم القرآن ) ( فيض القدير 4/ 388).

([16] )    أخرجه الإمام أحمد في المسند ( 4/ ص 94) وصححه شعيب الأرناؤوط .

([17] )  ذكره شيخ الإسلام في (مجموع الفتاوى 10/520) عن الشيخ عبد القادر الجيلاني موافقاً له، ونراه في أكثر من موضوع يمدحه بقوله (رضي الله عنه) كما أن التجربة تشهد لذلك.

[18]) )  فيض القدير : 2/ 499).

[19]) )   فيض القدير : 2/ 499).

([20])    انظر: أهمية فقه علاقة تسلسل الأسباب بالنتائج .( الكتاب) .

 

[21] )أخرجه الحاكم في المستدرك / ج1 / ص 45/ حديث 5)( وصححه الألباني في السلسلة 1585).

   ([22] )  انظر لزاما السلسلة الثالثة : (( صلاة الاستخارة .. كيف تتقنها ؟)) وتوجد ضمن ((سلسلة مسائل مهمة فـي صــلاة الاستخارة )) .موقع    صيــــــــــد الفوائــــــــــــــد .

[23]) )  انظر السلسة الرابعة والخامسة :(( علامات وثمار إتقانها )) . موقع صيــــــــــــــــد الفوائـــــــــــــــــــــــــــــــد .

 (1 )  لعلنا نصل إلى بعض ما وصلوا إليه ويعيد الله لنا مجدا أضعناه.

[25]  ( مصنف ابن أبي شيبة م1/ص 262 /ح 3006) ( العلل ومعرفة الرجال م 2/ ص 259/حديث 2184 ) الإمام أحمد .

[26])أخرجه ابن ماجه (1557، 1558) وقال الألباني : (حسن صحيح ).( مسند الإمام أحمد 12438) وقال الأرناؤوط : ( صحيح لغيره وهذا إسناد حسن ) .

[27](مضف ابن أبي شيبة / حديث 31270) ( مصنف عبد الرزاق / حديث 19183) .

 [28])  الجامع لمعمر ابن راشد الأزدي المتوفى سنة 151 هـ : (م 11/ 257) .

 [29])  ((تاريخ الطبري/2/ 678))وهي من رواية الواقدي وهو ضعيف، (نوادر الأصول في أحاديث الرسول/3/ 139)) أبو عبد الله الحكيم الترمذي.

[30]خرجه مسلم في صحيحه (1428)   صحيح مسلم (م 2/ ص 970/ حديث 1333 ، باب نقض الكعبة وبنائها .

[32]   أخرج ابن حبان في صحيحه ( م 15/ ص 142/ حديث 6742) نحوه ، وصححه الأرناؤوط ، أبو يعلى   بنحوه في مسنده ( م 6/ 129 / حديث 3402) وحسنه الشيخ حسين أسد .

[33]) (( تهذيب الكمال / م 6/ ص 417))

[34]) )      مقدمة فتح الباري / ج1 / 347) ، تغليق التعليق / 5/ 421) ابن حجر .

  ([35])      له قصة عجيبة مع الاستخارة قد يجد فيها المتأمل بعض الفوائد والعبر ، وخلاصتها : أنه رحل إلى مصر واجتمع مع ابن جرير ومحمد  بن  نصر والروياني في بيت، ثم نفدت نقودهم فجاعوا ، فعملوا قرعة ليخرج واحد منهم يسأل الناس ، فكانت من نصيبه فعز عليه ذلك وقال : ((أمهلوني حتى أصلي صلاة الخيرة)) فإذا برجل من قبل أمير مصر يقرع عليهم الباب ويقسم أن يقبلوا عطية الأمير ((تذكرة الحفاظ :2/753)) ((سير أعلام النبلاء 14/271)).

[36] الحديث في زكاة الإبل وقد أخرجه أبو داود وأحمد والحاكم وابن خزيمة في صحيحه وحسنه الألباني والأرناؤوط وكلها من رواية بهز بن حكيم عن أبيه عن جده .

[37]سير أعلام النبلاء / 13/ 512)) (( لسان الميزان / 2/ 222)) تاريخ بغداد / 7/ 371))

[38])   ثم وجدت كتابا جمع هذه المسائل ، ((الإنارة في المسائل التي علق الشافعي القول بها على الاستخارة )).المؤلف:  سعيد بن عبد  القادر باشنفر  .

[39] المحدث الفاصل / 1/ 586)) الحسن الرامهرمزي .

 [40]) (( سير أعلام النبلاء  / 11/ 309 )) الذهبي .

[41])سير أعلام النبلاء (11/ 309) .

[42]  (( الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/ 10) الخطيب البغدادي .

[43]  وهذه علامة مهمة من علامات الإخلاص الكثيرة .


*****

( السلسلة كاملة )

 

سند بن علي بن أحمد البيضاني



تعليقات